سورة الحاقة - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحاقة)


        


{الحاقة} أي السَّاعةُ، أو الحالةُ الثابتةُ الوقوعِ الواجبةُ المجىءِ لا محالةَ، أو التي يحقُّ فيها الأمورُ الحقةُ من الحسابِ والثوابِ والعقابِ، أو التي تُحقُّ فيها الأمورُ أي تُعرفُ على الحقيقةِ من حقَّهُ يحِقُّه إذا عرفَ حقيقتَهُ، جُعلَ الفعلُ لها مجازاً وهو لِما فيها منَ الأمورِ أو لمَنْ فيها من أُولِي العلمِ وأيَّا ما كانَ فحذفُ الموصوفِ للإيذانَ بكمالِ ظهورِ اتصافهِ بهذِهِ الصفةِ وجريانِهَا مجرى الإسمِ، وارتفاعُها على الابتداءِ، خبرُهَا {مَا الحاقة} على أنَّ مَا مبتدأٌ ثانٍ، والحاقَّةُ خبرُهُ، والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأولِ. والأصلُ ما هيَ أيْ أيُّ شيءٍ هي في حالِهَا وصفَتِهَا فإنَّ مَا قدْ يُطلبُ بها الصفةُ والحالُ، فوضعُ الظاهرِ موضعَ المضمرِ تأكيداً لهولها. هذا ما ذكرُوهُ في إعرابِ هذه الجملةِ ونظائرِهَا، وقد سبقَ في سورةِ الواقعةِ أنَّ مُقتضَى التحقيقِ أنْ تكونَ ما الاستفهاميةُ خبراً لما بعدَهَا فإنَّ مناطَ الإفادةِ بيانُ أنَّ الحاقةَ أمرٌ بديعٌ وخَطْبٌ فظيعٌ كما يفيدُهُ كونُ مَا خبراً لا بيانُ أنَّ أمراً بديعاً الحاقةُ كما يفيدُهُ كونُها مبتدأً وكونُ الحاقَّةِ خبراً. وقولُه تعالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ} أي وأيُّ شيءٍ أعلمكَ {مَا الحاقة} تأكيدٌ لهولِهَا وفظاعتِهَا ببيانِ خروجِهَا عن دائرةِ علومِ المخلوقاتِ على مَعْنَى أنَّ عظمَ شأنِهَا ومَدَى هولِهَا وشدَّتِهَا بحيثُ لا تكادُ تبلغُهُ درايةُ أحدٍ ولا وهمُهُ وكيفَما قدرتَ حالَهَا فهيَ أعظمُ من ذلكَ وأعظمُ فلا يتسنَّى الإعلامُ. ومَا في حيزِ الرفعِ على الابتداءِ، وأدراكَ خبرُهُ. ولا مساغَ هَهُنَا للعكسِ. ومَا الحاقَّةُ جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ على الوجهِ الذي عرفَتَهُ، محلُّها النصبُ على إسقاطِ الخافضِ لأنَّ أَدْرَى يتعدَّى إلى المفعولِ الثَّانِي بالباءِ كَما في قولِهِ تعالَى: {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} فلمَّا وقعتْ جملةُ الاستفهامِ معلّقةً لهُ كانَتْ في موضعِ المفعولِ الثانِي والجملةُ الكبيرةُ معطوفةٌ على ما قبلَهَا من الجملةِ الواقعةِ خبراً لقولِهِ تعالَى: {الحاقة} مؤكدةٌ لهولِها كما مرَّ {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة} أيْ بالحالةِ التي تقرعُ النَّاسَ بفنونِ الأفزاعِ والأهوالِ والسماءَ بالانشقاقِ والانفطارِ، والأرضَ والجبالَ بالدكِّ والنسفِ، والنجومَ بالطمسِ والانكدارِ. ووضعُهَا موضعَ ضميرِ الحَاقَّةِ للدلالةِ على مَعْنَى القرعِ فيها تشديداً لهولِهَا، والجملةُ استئنافٌ مسوقٌ لإعلامِ بعضِ أحوالِ الحَاقَّةِ لهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إثرَ تقريرِ أنَّه ما أدراهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بها أحدٌ، كما في قولِهِ تعالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَاهِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} ونظائرُهُ خَلا أنَّ المبيِّنَ هناكَ نفسُ المسؤولِ عنْهَا وهَهُنَا حالٌ منْ أحوالِهَا، كَما في قولِهِ تعالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} فكمَا أنَّ المبيَّنَ هناكَ ليسَ نفسَ ليلةِ القدرِ بل فضلَها وشرفَها، كذلكَ المبيَّنُ ههنا هولُ الحاقةِ وعظمُ شأنِهَا وكونُها بحيثُ يحقُّ إهلاكُ منْ يكذبُ بها كأنَّه قيلَ وما أدراكَ ما الحاقةُ كذبتْ بها ثمودُ وعادٌ فأُهلِكُوا.


{فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} أي بالواقعةِ المجاوزةِ للحدِّ، وهيَ الصِّيحةُ أو الرَّاجفةُ {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} أي شديدةِ الصَّوتِ لها صرصرةٌ، أو شديدةُ البردِ تحرقُ ببردِهَا {عَاتِيَةٍ} شديدةِ العصفِ كأنَّها عتتْ على خُزَّانِهَا فلم يتمكنُوا من ضبطِهَا أو على عادٍ فلم يقدرُوا على ردِّها. وقولُهُ تعالَى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ} إلخ استئنافٌ جىءَ بهِ بياناً ليكفيةِ إهلاكِهِم بالريحِ أي سلَّطها الله عليهِم بقدرتِه القاهرةِ {سَبْعَ لَيَالٍ وثمانية أَيَّامٍ حُسُوماً} أي متتابعاتٍ، جمعُ حاسمٍ كشهودٍ جمعُ شاهدٍ من حسمتُ الدابةُ إذا تابعتُ بين كيِّها أو نحساتٌ حسمتْ كلَّ خيرٍ واستأصلتهُ أو قاطعاتٌ قطعتْ دابرَهُم، ويجوزُ أنْ يكونَ مصدراً منتصباً على العلةِ بمعنى قطعاً أو عَلى المصدرِ لفعلِهِ المقدرِ حالاً أي تحسمُهُم حُسوماً، ويؤيدُه القراءةُ بالفتحِ. وهيَ كانتْ أيامَ العجوزِ من صبيحةِ أربعاءَ إلى غروبِ الأربعاءِ الآخرِ، وإنَّما سُمِّيتْ عجُوزاً لأنَّ عجُوزاً من عادٍ توارتْ في سِرْبٍ فانتزعتْهَا الريحُ في اليومِ الثامنِ فأهلكَتْهَا، وقيلَ هي أيامُ العجزِ وهيَ آخرُ الشتاءِ وأسماؤُها الصِنُّ والصِّنَّبرُ والوبرُ والآمرُ والمؤتمرُ والمعللُ ومطفىءُ الجَمْرِ وقيلَ ومُكفىءُ الظعنِ. {فَتَرَى القوم} إنْ كنتَ حاضراً حينئذٍ {فِيهَا} في مهابِّها أو في تلكَ الليالِي والأيامِ {صرعى} مَوْتَى جمعُ صريعٍ {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ} أي أصولُ نخلٍ {خَاوِيَةٍ} متآكلةِ الأجوافِ.
{فَهَلْ ترى لَهُم مّن بَاقِيَةٍ} أي بقيةٍ أو نفسٍ باقيةٍ أو بقاءٍ على أنَّها مصدرٌ كالكاذبةِ والطاغيةِ. {وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ} أيْ ومَنْ تقدَّمهُ. وقرئ: {ومَنْ قبلَهُ} أيْ ومَنْ عندَهُ من أتباعِهِ، ويؤيدُهُ أنَّه قرئ: {ومَنْ مَعَهُ} {والمؤتفكات} أي قرئ: {قومٍ لوطٍ} أي أهلُهَا {بِالْخَاطِئَةِ} بالخطإِ أو بالفعلةِ أو الأفعالِ ذاتِ الخطإِ التي من جُمْلتِهَا تكذيبُ البعثِ والقيامةِ.


{فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبّهِمْ} أي فعَصَى كلُّ أُمَّةٍ رسولَهَا حينَ نَهَوهُم عمَّا كانُوا يتعاطونَهُ من القبائحِ {فَأَخَذَهُمْ} أي الله عزَّ وجَلَّ {أَخْذَةً رَّابِيَةً} أي زائدةً في الشدةِ كما زادتْ قبائحُهُم في القبحِ من رَبَا الشيءُ إذَا زادَ. {إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء} بسببِ إصرارِ قومِ نوحٍ على فنونِ الكفرِ والمعاصِي ومبالغتِهِم في تكذيبِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فيما أوحَى إليهِ من الأحكامِ التي من جُمْلَتِهَا أحوالُ القيامةِ. {حملناكم} أي في أصلابِ أبائِكُم {فِى الجارية} في سفينةِ نوحٍ عليهِ السَّلامُ والمرادُ بحملِهِم فيها رفعُهُم فوقَ الماءِ إلى انقضاءِ أيامِ الطُّوفانِ، لا مجردُ رفعِهِم إلى السفينةِ كما يُعربُ عنهُ كلمةُ في فإنَّها ليستْ بصلةٍ للحملِ بلْ متعلقةٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من مفعولِهِ أي رفعناكُم فوقَ الماءِ وحفظناكُم حالَ كونِكُم في السفينةِ الجاريةِ بأمرِنَا وحفظِنَا، وفيه تنبيهٌ على أنَّ مدارَ نجاتِهِم محضُ عصمتِهِ تعالى إنَّما السفينةُ سببٌ صُوريٌّ {لِنَجْعَلَهَا} أي لنجعلَ الفعلةَ التي هي عبارةٌ عن إنجاءِ المؤمنينَ وإغراقِ الكافرينَ. {لَكُمْ تَذْكِرَةً} عبرةً ودلالةً على كمالِ قُدرةِ الصَّانعِ وحكمتِهِ وقوةِ قهرِهِ وسعةِ رحمَتِهِ {وَتَعِيَهَا} أي تحفظُهَا والوعيُ أنْ تحفظَ الشيءَ في نفسِكَ والإيعاءُ أن تحفظَهُ في غيرِ نفسِكَ من وعاءٍ وقرئ: {تَعْيها} بسكونِ العينِ تشبيهاً له بكتفٍ. {أُذُنٌ واعية} أي أذنٌ من شأنِهَا أنْ تحفظَ ما يجبُ حفظُهُ بتذكرِهِ وإشاعَتِهِ والتفكرِ فيهِ ولا تضيعُهُ بتركِ العملِ بهِ. والتنكيرُ للدلالةِ على قلَّتِهَا وأنَّ مَن هَذا شأنُه مَع قلتِهِ يتسببُ لنجاةِ الجمِّ الغفيرِ وإدامةِ نسلِهِم. وقرئ: {أُذْنٌ} بالتخفيفِ. {فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور نَفْخَةٌ واحدة} شروعٌ في بيانِ نفسِ الحاقَّةِ وكيفيةِ وقوعِهَا إثرَ بيانِ عظمِ شأنِهَا بإهلاكِ مكذبيها، وإنَّما حسُنَ إسنادُ الفعلِ إلى المصدرِ لتقييدِه وحسُنَ تذكيرُهُ للفصلِ. وقرئ: {نفخةً واحدةً} بالنصبِ على إسنادِ الفعلِ إلى الجارِّ والمجرورِ، والمرادُ بها النفخةُ الأُولى التي عندَهَا خرابُ العالمِ. {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال} أي وقُلعتْ ورُفعتْ من أماكنِهَا بمجردِ القدرةِ الإلهيةِ أوبتوسطِ الزلزلةِ أو الريحِ العاصفةِ. {فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة} أيْ فضُربتْ الجملتانِ إثرَ رفعِهِمَا بعضِهَا ببعضٍ ضربةً واحدةً حتى تندقَّ وترجعَ كثيباً مهيلاً وهباءً منبثاً، وقيل فبُسطتا بسطةً واحدةً فصارتَا قاعاً صفصفاً لا تَرَى فيها عِوَجاً ولا أَمْتاً من قولِهِم اندكَّ السنامُ إذا تفرشَ وبعيرٌ أدكُّ وناقةٌ دكاءُ ومنهُ الدكانُ. {فَيَوْمَئِذٍ} فحينئذٍ {وَقَعَتِ الواقعة} أي قامتِ القيامةُ.

1 | 2 | 3